JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->

انقلاب اريتريا على اثيوبيا في قضية ميناء عصب

 

صورة لسفينة اثيوبية تحمل اسم مقلي عاصمة تيغراي وهي ترسوا في ميناء عصب 

لتخيل الوضع تشكل إريتريا لسانا ساحليا يفصل بين الأراضي الإثيوبية والبحر الأحمر، وهو تمركز جغرافي تعاني منه إثيوبيا لسنوات منذ استقلال اريتريا حتى يومنى هذا، بينما لم يكن يمثل لها مشكلة كبيرة بعد استقلال إريتريا كما كان يبدو أوائل الاستقلال، فبعد الاستقلال بدت العلاقات الإريترية الإثيوبية أكثر قربا من ذي قبل، خاصة في بداية عهد "الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية" بقيادة "ملس زيناوي" عام 1991، وهو الذي كان مساندا للثوار الإرتريين في نضالهم ضد الحكومة الماركسية الإثيوبية، وكان من ثمار هذا التفاهم أن الاستفتاء لاستقلال اريتريا كان معترفا به من قبل أديس أبابا.

امتد التفاهم بين الدولتين إلى ما بعد الاستقلال الإريتري، وأرادت إريتريا على ما يبدو أن ترد الجميل للقيادة الإثيوبية برائسة ملس زيناوي التي سمحت بالاستفتاء مع الاعتراف الكامل بنتائجه، فتنازلت عن مطالبتها بتعويضات الحرب، وتم توقيع الاتفاقيات التجارية بين الدولتين، وواصلت إريتريا استخدام العملة الإثيوبية "بر" في البداية، وفتحت أسواقها أمام الشركات الإثيوبية، لكن الأهم من كل ما سبق هو اعتبار ميناء عصب الإريتري ميناء مجانيا لإثيوبيا، والسماح للبضائع الإثيوبية سواء صادراتها أو وارداتها بالمرور من الميناء بدون دفع أي رسوم.

ظلت العلاقات دافئة بين البلدين حتى انقلب لبشيطان افورقي رئيس اريتريا في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1997، حينما شرعت إريتريا فيما كانت تخشاه إثيوبيا وبدأت بفرض رسوم على التجارة الإثيوبية، وأصدرت عملتها المحلية الخاصة "ناكفا" لتستيقظ إثيوبيا على دفع رسوم لأول مرة في تاريخها، ولتؤدي محاولات إريتريا فرض سيادتها والعودة الى التوترات بين البلدين من جديد. ولم يمض وقت طويل حتى بلغ الاحتكاك أشده حينما احتلت القوات الإريترية على بلدة حدودية متنازع عليها مع إثيوبيا تدعى "بادمي"، وهي بلدة كانت تحت السيطرة الإثيوبية أوائل عام 1998. كانت "بادمي" بلدة صغيرة متواضعة بلا أي أهمية ولم يكن لها أي مكانة إستراتيجية تُذكر، فلم تكن تمتلك نفطا أو ماسا أو أي شيء يمكن نشوب صراع حوله، لكن الأمر كان معركة فرض سيادة وأمر واقع بين أسمرة وأديس أبابا أكثر من أي شيء آخر.

تطور النزاع الصغير حتى وصل إلى حرب شاملة بين البلدين في مايو/أيار من العام نفسه، حرب وُصفت محليا بتعبير دارج وتعني"رجلان أصلعان يتقاتلان على مشط" لعدم أهمية البلدة المتنازع عليها بالنظر إلى نتائج الحرب التي استمرت عامين وخلفت وراءها آلاف القتلى وخسائر بمليارات الدولارات. وبينما كان الاقتصاد الإثيوبي الشاب يزيل ركام الحرب ويحصي خسائره، فقد استفاق على حقيقة قاسية هي أنه أصبح فعليا غير قادر على الوصول بتجارته إلى البحر بعد إغلاق ميناء "عصب" في وجهه بقرار فردي من الرئيس الدكتاتوري افورقي ، ما يعني أن استيراد المواد الأساسية والسلع التصديرية أصبحت أكثر تكلفة بكثير، وأن إثيوبيا أصبحت دولة حبيسة.

وكان زيناوي يعلم أنه لا يمكن لإثيوبيا تحقيق طموحاتها المحلية والإقليمية من غير موانئ حرة ومتاحة وهو ما سيظهر جليا بعد عدة سنوات، لذا لم يتردد في طرح الحلول السلمية لاريتريا وعرض الكثير من الاموال من أجل السماح لأديس أبابا بالعودة إلى ميناء "عصب" من جديد، لذا قال تصريحه الشهير عام 2000 "إذا استخدمنا ميناء عصب، فإن الفائدة لن تعود علينا فقط وإنما على إريتريا أيضا، وإذا قررنا عدم استخدام عصب، سيبقى مصيره مجرد مصدر لمياه الشرب للإبل. لقد أوضحت ذلك للدبلوماسيين. لا أكثر ولا أقل. إذا لم نستخدم ميناء عصب، فلن تحصل الحكومة الإريترية على سنت واحد".

ولتافدي الحروب مع اريتريا حولت إثيوبيا تجارتها الخارجية من ميناء عصب إلى ميناء جيبوتي، وعنى ذلك للدولة الأفريقية الصغيرة أن هناك 13 مليار دولار واردات ونحو 3 مليارات دولار صادرات تمر عبر مينائها سنويا، وباستثناء الزهور وبعض الأغذية الزراعية المعالجة كاللحوم التي يتم تصديرها عبر الخطوط الجوية الإثيوبية، تعتمد إثيوبيا على ميناء جيبوتي في 95% من وارداتها وصادراتها، لكن ذلك لم يكن أبدا ملائما لما تطمح إليه.

لذا، واستنادا إلى الإستراتيجية الإثيوبية للتحول إلى مركز تصنيع مزدهر، كان لزاما على الحكومة الإثيوبية معالجة إحدى أكبر مشاكلها ممثلة في الموانئ، فأطلقت إستراتيجية لوجستية وطنية في أبريل/نيسان عام 2015، بدعم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، من أجل استخدام موانئ متعددة في البلدان المجاورة، وهي إستراتيجية لخصها وزير النقل الإثيوبي "ووركنا جبيهيو" حينما قال: "سننظر في استخدام جميع الموانئ في المنطقة"

عانت إثيوبيا على مدار سنوات طويلة من التكاليف الباهظة لمرور تجارتها عن طريق ميناء جيبوتي، حيث سببت الرسوم الباهظة التي تحملتها أديس أبابا في جيبوتي لدفع اقتصادها إلى الركود بشكل أكبر، فبلغت إجمالي تكاليف النقل العابر أكثر من 16% من قيمة التجارة الخارجية لإثيوبيا والتي تبلغ نحو مليوني دولار يوميا، وهو ما يشكل نزيفا فعليا لاقتصاد الدولة لا يمكن تركه طويلا.

مؤخراً خطب رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، أمام برلمان بلاده، حول ما أسماه "الضرورة الوجودية لإثيوبيا في الوصول إلى منفذ في البحر الأحمر"،مما اثار ردوداً عدة، و طرح تساؤلات ملحة حول دوافع ونوايا الحملة التي أطلقها أمام المشرعين، مستنكراً "فكرة تحريم الحديث عن أحقية بلاده في ضمان موطئ قدم على مياه البحر الأحمر، ففيما وجد الخطاب تجاوباً كبيراً في الإعلام الإثيوبي والأوساط السياسية، بخاصة لدى بعض الأحزاب الأمهرية، مما أثار مجموعة من المخاوف لدى إريتريا والتي فسرت الخطاب بانها هي المقصودة وميناء عصب هو الوجهة القادمة.

مما جعل وزارة الإعلام الإريترية ترد على الخطاب المطول الذي استمر حوالى 46 دقيقة، ببيان مقتضب لا يتعدى أربعة أسطر، وذلك من دون ذكر اسم آبي أحمد ولا منصبه، واصفة الخطاب بأحاديث "القيل والقال حول المياه والمنافذ البحرية" ونصح البيان الإريتري المتابعين بعدم الانجرار لتلك "الأقاويل"، وزاد على ذلك بالقول "إن الحكومة الإريترية لا تعير تلك الدعوات والموائد أهمية تذكر" وبث التلفزيون الإريتري برامج وثائقية تتناول صراع القوى الدولية تاريخياً حول حوض البحر الأحمر، في إشارة إلى مآل كل تلك المحاولات الدولية، التي أفضت إلى احتفاظ إريتريا بكامل شواطئها.

وكشف خطاب آبي أحمد، المُطالب بضرورة توفير موانئ، عن أزمة صامتة بين حكومته وحليفه السابق في حرب تيغراي النظام الدكتاتوري الإريتري، إذ إن اللغة المستخدمة في الخطاب والمطالبات التي تنتقص من السيادة الإريترية على الأراضي والمسطحات المائية كافة، فضلاً عن قوله "إن المزاج الشعبي الذي أفضى إلى استقلال إريتريا عن إثيوبيا لم يعد قائماً الآن"، يقرأها المراقبون باعتبارها "إشارة واضحة إلى فشل حليفه السابق في إقامة دولة وطنية تحافظ على استقرارها وسيادتها الوطنية وكرامة شعبها".

كما أن الرد المقتضب الذي أصدرته وزارة الإعلام الإريترية، بتجاهل اسم ومنصب رئيس وزراء الجارة الكبرى، علاوة على استخدام مفردات ساخرة من خطاب آبي أحمد، كوصفه بحديث "القيل والقال"، يكشف حجم الأزمة الصامتة بين الحليفين السابقين، فضلاً عن تعمد إصدار البيان من وزارة الإعلام وليس من الخارجية الإريترية المعنية بالرد على هكذا مواقف من جهات خارجية.

إن "تصريحات آبي أحمد تعد نوعاً من إعلان حرب مغلفة بلغة الدبلوماسية والسياسة"، موضحاً أن ذلك عائد لأسباب عدة، أهمها،  أنه تحدث عن "أحقية إثيوبيا في امتلاك منفذ على البحر" وليس "استخدام منفذ بحري"، والفرق بين الاثنين أنه في الحالة الأولى يريد اقتطاع ميناء من سيادة دولة مجاورة مطلة على البحر، وضمها إلى السيادة الإثيوبية بكل السبل بما في ذلك استخدام القوة العسكرية"، في حين تخضع الحالة الثانية لعقد اتفاقيات مشتركة للاستفادة من الموانئ المجاورة، وهذا ما ظل قائماً منذ استقلال إريتريا عام 1993، إذ تم توقيع اتفاقيات مع إريتريا ظلت سارية حتى عام 1998.

 أن حديث رئيس الوزراء الإثيوبي نص حرفياً على أن "المنفذ البحري يمثل ضرورة وجودية لإثيوبيا"، الأمر الذي يبعث برسالة غاية في الخطورة، إذ يعني أنه أمر غير قابل للتفاوض، بخاصة وأن الخطاب اعتبر مسألة الوصول إلى البحر بمثابة "حرب مؤجلة"، مطالباً بعدم توريث الأجيال المقبلة "مسؤولية خوض حرب من أجل المنفذ البحري"، مما يكشف حسب رأيه، عن "نوايا عدائية".

NomE-mailMessage